فصل: المسألة الْخَامِسَةُ: قَوْله تعالى: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الْآخِرَةِ}:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.القراءات والوقوف:

قال العلامة النيسابوري رحمه الله:

.القراءات:

{وكلمة الله} بالنصب: يعقوب. الباقون: بالرفع.

.الوقوف:

{إلى الأرض} ط {من الآخرة} ط {قليل} o {شيئا} ط {قدير} o {معنا} ج لعطف {أنزل} على {نصره} مع عوارض الظروف.
{السفلى} ط إلا لمن قرأ {وكلمة} بالنصب {العليا} ط {حكيم} o {في سبيل الله} ط {تعلمون} o {الشقة} ط {معكم} ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال.
{أنفسهم} ج لواو الابتداء والحال.
{لكاذبون} o {عنك} ج لحق الاستفهام مع اتصال الكلام معنى.
{الكاذبين} o {وأنفسهم} ط {بالمتقين} o {يتردّدون} o {القاعدين} o {الفتنة} ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال {لهم} ط {بالظالمين} {كارهون} o {ولا تفتني} ط {سقطوا} ط {بالكافرين} o. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ}
في الآية مسائل:

.المسألة الأولى: [الترغيب في مقاتلة الكفار]:

اعلم أنه تعالى لما شرح معايب هؤلاء الكفار وفضائحهم، عاد إلى الترغيب في مقاتلتهم وقال: {يا أيها الذين ءَامَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا في سَبِيلِ الله اثاقلتم إِلَى الأرض} وتقرير الكلام أنه تعالى ذكر في الآيات السابقة أسبابًا كثيرة موجبة لقتالهم، وذكر منافع كثيرة تحصل من مقاتلتهم كقوله: {يُعَذّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 14] وذكر أقوالهم المنكرة وأعمالهم القبيحة في الدين والدنيا، وعند هذا لا يبقى للإنسان مانع من قتالهم إلا مجرد أن يخاف القتل ويحب الحياة فبين تعالى أن هذا المانع خسيس لأن سعادة الدنيا بالنسبة إلى سعادة الآخرة كالقطرة في البحر، وترك الخير الكثير لأجل الشر القليل جهل وسفه.

.المسألة الثانية: [في نزول الآية في غزوة تبوك]:

المروي عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في غزوة تبوك، وذلك لأنه عليه السلام لما رجع من الطائف أقام بالمدينة وأمر بجهاد الروم، وكان ذلك الوقت زمان شدة الحر وطابت ثمار المدينة وأينعت، واستعظموا غزو الروم وهابوه، فنزلت هذه الآية.
قال المحققون: وإنما استثقل الناس ذلك لوجوه: أحدها: شدة الزمان في الصيف والقحط.
وثانيها: بعد المسافة والحاجة إلى الاستعداد الكثير الزائد على ما جرت به العادة في سائر الغزوات.
وثالثها: إدراك الثمار بالمدينة في ذلك الوقت.
ورابعها: شدة الحر في ذلك الوقت.
وخامسها: مهابة عسكر الروم فهذه الجهات الكثيرة اجتمعت فاقتضت تثاقل الناس عن ذلك الغزو، والله أعلم.

.المسألة الثالثة: [في تفسير مفردات الآية]:

يقال: استنفر الإمام الناس لجهاد العدو فنفروا ينفرون نفرًا ونفورًا، إذا حثهم ودعاهم إليه، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا استنفرتم فانفروا» وأصل النفر الخروج إلى مكان لأمر واجب، واسم ذلك القوم الذين يخرجون النفير، ومنه قولهم: فلان لا في العير ولا في النفير.
وقوله: {اثاقلتم إِلَى الأرض} أصله تثاقلتم، وبه قرأ الأعمش ومعناه: تباطأتم ونظيره قوله: {فادارأتم} [البقرة: 72] وقوله: {قَالُواْ اطيرنا بِكَ} [النمل: 47] قال صاحب الكشاف: وضمن معنى الميل والإخلاد فعدي بـ(إلى)، والمعنى ملتم إلى الدنيا وشهواتها وكرهتم مشاق السفر ومتاعبه، ونظيره {أَخْلَدَ إِلَى الأرض واتبع هَوَاهُ} [الأعراف: 176] وقيل معناه ملتم إلى الإقامة بأرضكم والبقاء فيها، وقوله: {مَالَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ} وإن كان في الظاهر استفهامًا إلا أن المراد منه المبالغة في الإنكار.
ثم قال تعالى: {أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل} والمعنى كأنه قيل قد ذكرنا الموجبات الكثيرة الداعية إلى القتال، وقد شرحنا المنافع العظيمة التي تحصل عند القتال، وبينا أنواع فضائحهم وقبائحهم التي تحمل العاقل على مقاتلتهم، فتركتم جميع هذه الأمور، أليس أن معبودكم يأمركم بمقاتلتهم وتعلمون أن طاعة المعبود توجب الثواب العظيم في الآخرة؟ فهل يليق بالعاقل ترك الثواب العظيم في الآخرة، لأجل المنفعة اليسيرة الحاصلة في الدنيا؟ والدليل على أن متاع الدنيا في الآخرة قليل، إن لذات الدنيا خسيسة في أنفسها ومشوبة بالآفات والبليات ومنقطعة عن قريب لا محالة، ومنافع الآخرة شريفة عالية خالصة عن كل الآفات، ودائمة أبدية سرمدية وذلك يوجب القطع بأن متاع الدنيا قليل حقير خسيس.

.المسألة الرابعة: [دلالة الآية على وجوب الجهاد في كل حال]:

اعلم أن هذه الآية تدل على وجوب الجهاد في كل حال لأنه تعالى نص على أن تثاقلهم عن الجهاد أمر منكر، ولو لم يكن الجهاد واجبًا لما كان هذا التثاقل منكرًا، وليس لقائل أن يقول الجهاد إنما يجب في الوقت الذي يخاف هجوم الكفار فيه، لأنه عليه السلام ما كان يخاف هجوم الروم عليه، ومع ذلك فقد أوجب الجهاد معهم، ومنافع الجهاد مستقصاة في سورة آل عمران، وأيضًا هو واجب على الكفاية، فإذا قام به البعض سقط عن الباقين.

.المسألة الخامسة: [خطاب الآية لكل المؤمنين]:

لقائل أن يقول إن قوله: {يا أيها الذين آمنوا} خطاب مع كل المؤمنين.
ثم قال: {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا في سَبِيلِ الله اثاقلتم إِلَى الأرض} وهذا يدل على أن كل المؤمنين كانوا متثاقلين في ذلك التكليف، وذلك التثاقل معصية، وهذا يدل على إطباق كل الأمة على المعصية وذلك يقدح في أن إجماع الأمة حجة.
الجواب: أن خطاب الكل لإرادة البعض مجاز مشهور في القرآن، وفي سائر أنواع الكلام كقوله:
إياك أعني واسمعي يا جاره

. اهـ.

.قال ابن العربي:

قَوْله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إذَا قِيلَ لَكُمْ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إلَّا قَلِيلٌ}.
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ:

.المسألة الْأُولَى: قَوْلُهُ: {مَا لَكُمْ}:

مَا: حَرْفُ اسْتِفْهَامٍ، التَّقْدِيرُ: أَيُّ شَيْءٍ يَمْنَعُكُمْ عَنْ كَذَا؟ كَمَا تَقُولُ مَا لَك عَنْ فُلَانٍ مُعْرِضًا.
وَنِظَامُهُ الصِّنَاعِيُّ مَا حَصَّلَ لَك مَانِعًا لِكَذَا أَوْ كَذَا.
وَكَذَا تَقُولُ: مَا لَك تَقُومُ وَتَقْعُدُ؟ التَّقْدِيرُ: أَيُّ شَيْءٍ حَصَّلَ لَك مَانِعًا مِنْ الِاسْتِقْرَارِ؟

.الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}:

يُقَالُ: نَفَرَ إذَا زَالَ عَنْ الشَّيْءِ.
وَتَصْرِيفُهُ نَفَرَ يَنْفِرُ نَفِيرًا، وَنَفَرَتْ الدَّابَّةُ تَنْفِرُ نُفُورًا، وَكَأَنَّ النُّفُورَ فِي الْإِبَايَةِ، وَالنَّفِيرَ فِي الْإِقْبَالِ وَالسِّعَايَةِ.
وَقَدْ يُؤَلَّفَانِ عَلَى رَأْيِ مِنْ يَرَى تَأْلِيفَ الْمَعَانِي الْمُخْتَلِفَةِ تَحْتَ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ بِوَجْهٍ يَبْعُدُ تَارَةً وَيَقْرُبُ أُخْرَى، وَيَكُونُ تَأْوِيلُهُ هَاهُنَا: زُولُوا عَنْ أَرْضِيكُمْ وَأَهْلِيكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.

.المسألة الثَّالِثَةُ: فِي مَحَلِّ النَّفِيرِ:

لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ غَزْوَةُ تَبُوكَ، دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهَا فِي حَمَّارَةِ الْقَيْظِ، وَطَيِّبِ الثِّمَارِ، وَبَرْدِ الظِّلَالِ؛ فَاسْتَوْلَى عَلَى النَّاسِ الْكَسَلُ، وَغَلَبَهُمْ عَلَى الْمَيْلِ إلَيْهَا الْأَمَلُ، فَتَقَاعَدُوا عَنْهُ، وَتَثَاقَلُوا عَلَيْهِ، فَوَبَّخَهُمْ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ هَذَا، وَعَابَ عَلَيْهِمْ الْإِيثَارَ لِلدُّنْيَا عَلَى ثَوَابِ الْآخِرَةِ.

.المسألة الرَّابِعَةُ: قوله: {اثَّاقَلْتُمْ}:

قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: مَعْنَاهُ تَثَاقَلْتُمْ، وَهَذَا تَوْبِيخٌ عَلَى تَرْكِ الْجِهَادِ، وَعِتَابٌ فِي التَّقَاعُدِ عَنْ الْمُبَادَرَةِ إلَى الْخُرُوجِ.
وَنَحْوُ قَوْلِهِ: {مَا لَكُمْ إذَا قِيلَ لَكُمْ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} هُوَ قَوْلُهُ: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ} الْمَعْنَى لَا تُقْبِلُوا عَلَى الْأَمْوَالِ إيثَارًا لَهَا عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَلَا تَرْكَنُوا إلَى التِّجَارَةِ الْحَاضِرَةِ، تَقْدِيمًا لَهَا عَلَى التِّجَارَةِ الرَّابِحَةِ الَّتِي تُنْجِيكُمْ مِنْ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.

.المسألة الْخَامِسَةُ: قَوْله تعالى: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الْآخِرَةِ}:

يَعْنِي بَدَلًا مِنْ الْآخِرَةِ، وَيَرِدُ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ نَثْرًا، وَنَظْمًا؛ قَالَ الشَّاعِرُ:
فَلَيْتَ لَنَا مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ شَرْبَةً ** مُبَرَّدَةً بَاتَتْ عَلَى الطَّهَيَانِ

أَرَادَ لَيْتَ لَنَا بَدَلًا مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ.
وَالطَّهَيَانُ: عُودٌ يُنْصَبُ فِي سَاحَةِ الدَّارِ لِلْهَوَاءِ، وَيُعَلَّقُ عَلَيْهِ إنَاءٌ لَيْلًا حَتَّى يَبْرُدَ.
عَاتَبَهُمْ عَلَى إيثَارِ الرَّاحَةِ فِي الدُّنْيَا عَلَى الرَّاحَةِ فِي الْآخِرَةِ؛ إذْ لَا تُنَالُ رَاحَةُ الْآخِرَةِ إلَّا بِنَصَبِ الدُّنْيَا.
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَقَدْ طَافَتْ رَاكِبَةً: «أَجْرُكِ عَلَى قَدْرِ نَصَبِكِ».
وَهَذَا لَا يَصْدُرُ إلَّا عَنْ قَلْبٍ مُوقِنٍ بِالْبَعْثِ. اهـ.

.قال السمرقندي:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} يعني: في الجهاد {اثاقلتم إِلَى الأرض}، يعني: تثاقلتم، فأدغم التاء في الثاء، وأجلب الألف لتسكين ما بعد هذه، يعني: قعدتم ولم تخرجوا؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الناس بالخروج إلى غزوة تبوك، وكان في أيام الصيف، حين اشتد الحر وطابت الثمار والظلال، فكانوا يتثاقلون عن الخروج؛ فعاتبهم الله فقال: {يا أيها الذين ءامَنُواْ مَا لَكُمْ}، يقول: آثرتم واخترتم عمل الدنيا على عمل الآخرة.
{فَمَا مَتَاعُ الحياة الدنيا}، يعني: منفعة الدنيا {فِى الآخرة إِلاَّ قَلِيلٌ}، يعني: بجنب منفعة الآخرة إلا ساعة؛ ويقال: معناها ما يتمتع به في الدنيا قليل عندما يتمتع به أولياء الله تعالى في الجنة. اهـ.